قريتي
قريتي

قريتي ونفسي
بالأمس كانت لي قريةٌ هادئةٌ، ضائعة بينَ أشجارِ الزّيتونِ والسّنديان.وفي ذات يومٍ، نسيتُ أنّي جُبلْتُ من ترابِها... فرحلْتُ عنها غيرَ ملتفتٍ إلى الوراء... وعندما هبطْتُ من سمائِها إلى حضيضِ المدينةِ أويْتُ إلى شقّة ضيّقةٍ في بنايةٍ ضخمةٍ، غرفُها كعلبِ السّردين، وسقفُها واطئٌ، ونوافذُها كقضبانِ السّجن...
كنْت في قريتي إذا فتحْت نافذتي أطللْتُ على الدّنيا، فسبحَ نظري في الرّوابي والمروج والأودية... ففي أذني الزّقزقةُ الضّاحكةُ، والخريرُ النّاعمُ، والحفيفُ الحنون. وفي صدري شذا ألوفِ الأزهارِ يختلطُ بعبقِ الأرض. وفي عيني دنيا من الألوانِ وعرسٌ من النّور. حتّى إذا أقبلَ المساءُ غمرَتني رهبةُ اللّيل، ورأيتني قلبًا خافقًا وروحًا شاعرةً ونفسًا زاخرةً بالحبِّ والجمال...
وها أنا اليومَ جاثمٌ بينَ جدرانٍ أربعة... فإذا فتحْتُ نافذتي للصّباحِ حجبَ عنّي الشّمسَ جيراني الأغنياء وحبسوا الهواءَ وسدّوا منافذَ النّورِ، ثمّ تعالى إليّ من قلبِ المدينةِ ضجيجُ النّاسِ وصخبُ الشّارعِ وزعيقُ السّيّارات... وإذا اقفلْتُ نافذتي اختنقْتُ، أو فتحْتُها جننْت، وإذا رميْتُ بنظري خارجَ قفصي صدَّتْه البيوتُ المتراصّةُ بعضُها إلى بعض...
كان أفقي الأفقَ الفسيحَ، فأصبح أفقي جدارًا من الجدران، وكانت نفسي حرّة طليقة فدفنْتُها بيدي في دنيا الإسمنتِ والازدحام...
خليل تقي الدّين-"خواطر ساذج"
(بتصرّف)