قارورة عطر
قارورة عطر

قارورة عطرٍ !
هلْ تعرفونَ معنى أنْ يسكنَ الإنسانُ في قارورةِ عطرٍ؟ بيتُنا كانَ تلكَ القارورةِ!
إنّني لا أحاولُ رشوتَكُم بتشبيهٍ بليغٍ، ولكنْ ثقوا أنَّني بهذا التّشبيهِ لا أظلمُ قارورةَ العطرِ، وإنَّما أظلمُ دارَنا .
الّذين (سكنوا) دمشقَ، وتغلغلوا في حاراتِها وزواريِبها الضّيّقةِ، يعرفونَ كيفَ تفتحُ لَهُم الجنّةُ ذراعيها منْ حيثُ لا يَنتظرونَ.
بوابّةٌ صغيرةٌ من الخشبِ تنفتحُ، ويبدأُ الإسراءُ على الأخضرِ، والأحمرِ، واللّيلكيِّ... وتبدأُ سمفونيةُ الضّوءِ والظّلِّ والرّخامِ.
شجرةُ النّارنج*(تحتضنُ) ثمرَها، والدّاليةُ تغتسلُ بأخضرِها، والياسمينةُ ولَدَتْ ألفَ قمرٍ أبيضَ، وعلّقَتْهم على قضبانِ النّوافذِ ... وأسرابُ السّنونو لا تصطافُ إلّا عندَنا.
أُسُودُ الرُّخامِ حولَ البركةِ الوسطى تملأُ فمَها بالماءِ، وتنفخُهُ .... وتستمرُّ اللّعبةُ المائيةُ ليلَ نهارَ لا النّوافيرُ تتعبُ، ولا الماءُ ينتهي .
الوردُ البلديُّ سجّادٌ أحمرُ ممدودٌ تحتَ أقدامِكَ، واللّيلكةُ تمشّطُ شعرَها البنفسجيَّ، والجوريّ، والخبيزةُ، والشّابُ الظّريفُ، والمنثورُ، والرّيحانُ ... وألوفُ النّباتاتِ التّي أتذكّرُ ألوانَها، ولا أتذكّرُ أسماءَها، لا تزالُ ( تتسلّقُ ) على أصابعي كلّما أردْتُ أنْ أكتبَ.
الأدراجُ الرّخاميةُ تصعدُ، وتصعدُ على كيْفها، والحمائمُ تهاجرُ، وترجعُ على كيْفها. لا أحدَ يسألُها ماذا تفعلُ؟ والسّمكُ الأحمرُ يسبحُ على كيْفه، ولا أحدَ يسألُه إلى أين؟
عشرون صفيحة فلّ في صحن الدّار هي كلّ ثروة أمّي. كلّ زرّ فلّ عندها يساوي صبيًّا من أولادها ... لذلك كلّما غافلناها، وسرقنا ولدًا من أولادها، بكت وتوعّدت.
ضمنَ نطاقِ هذا الحزامِ الأخضرِ وُلدْتُ، وحبوْتُ، ونطقْتُ كلماتي الأولى.
كانَ اصطدامي بالجمالِ قَدَرًا يوميًّا. كنْتُ إذا تعثّرْتُ أتعثّرُ بجناحِ حمامةٍ، وإذا سقطْتُ أسقطُ على حضنِ وردةٍ.
نزار قبّاني