تعريف الأدب
تعريف الأدب

تعريفُ الأدب
الأدب، موضوعُنا منذُ الآنَ، هو في إطاره الإبداعيّ أحدُ الفنون الجميلة الخمسة: كالرَّسمِ والنَّحتِ والرَّقصِ والموسيقى. وهو مِثْلُها جَميعًا صِناعَةٌ فنيَّةٌ يعبَّرُ بها التَّعبيرَ المُؤَثِّر عن طوايا النَّفس البشريّة في كلّ ما تضطرِبُ به من أَشتاتِ الرُّؤى وخواطِرِ الفِكْرِ والوِجدان، ولا يختلِفُ عنها في شيءٍ من حيثُ الغاية التّأثيريّة الّتي يسعى إليها كلُّ فَنٍّ جَميل. بَيْدَ أنَّ الأَدَبَ، كفنٍّ جميل، يتميَّزُ بمادَّة التَّعبير الّتي هي ألفاظُ اللُّغة، فيما هي الأشكالُ للنّحت والزّخارف، والحركاتُ للرّقص، والأنغامُ للموسيقى، والألوانُ والخطوط للرّسم.
وإذا كان الفنُّ يستلزمُ لبنائِه الجماليّ حقائقَ ذاتيَّةً رُؤْيَوِيَّةً لا حقائقَ موضوعيَّةً، فقد وَجَبَ أنْ نستثني من دائرةِ الفنونِ الجميلةِ كلَّ ما هو مُنطبقٌ على حقائقِ الوجودِ الموضوعيّ، مُماثِلٌ لها، فلا يبقى للفنِّ هكذا من محتوًى سوى الحقائقِ الذّاتيّةِ فقط. أمّا الحقائِقُ الموضوعيّة فهي محتوى العملِ الفكريّ والعلميّ لا العمل الفنّيّ. وعلى هذا التَّمييز يقومُ الفارِقُ بين الفنِّ والعلمِ.
وَلَمّا كانَ الإنسانُ المبدعُ أحَدَ اثنين: الأوَّلُ عقلٌ غالِبٌ يتأثَّرُ بالمظاهِرِ الكونيَّة فيتحرّى حقائقَها في الأسباب والنّتائجِ، فيُحيلُ هكذا حقائِقَ الوجود الموضوعيّ إلى صياغةٍ فكريَّةٍ تعبيريّة، فإنَّ موقفه هذا هو موقفُ المفكِّرِ العالِم، ومحتوى عملِه هو محتوى العملِ العلميّ. أمّا الثّاني فإنسانٌ يتأثَّر بظاهِرِ الوجود حوْله، لكنَّه ذاتٌ تَصْهر الوجودَ في عالمِها فتُحيلُ حقائِقَ الأشياء الموضوعيّة حقائقَ ذاتيّةً. وهو لا يُعيدُها على حقيقتها، وإنّما يعيدُها بعد دخولها إلى هَيْكَلِهِ النَّفسيّ كما تريدُها ذاتُه أنْ تكونَ.
هذا هو موقِفُ الفنّانِ، ومحتوى عَمَلِهِ هو محتوى العملِ الفنيّ الأصيل.
ولماذا يَضْطَرِبُ المقياسُ الفنيُّ في الأدبِ وحدَهُ من دونِ سائرِ الفنونِ الجميلةِ؟ ما كان ثمَّة مجالٌ لأيِّ تشابُكٍ بين أعمالِ الفنِّ الأدبيّ وأعمالِ الفكرِ عامَّةً، لولا أنَّ الأديبَ الفنّان والأديب المفكِّر يتَّخذُ كِلاهُما وسيلة تعبيريَّةً واحدة: اللّغة. إنّ مادّة التّعبير الفنِّيّ في الموسيقى هي وحْدَها الأنغامُ، وهنا إمّا أن تكون الأنغامُ جميلةً، فهي إذ ذاك فنُّ موسيقيُّ، وإمّا أن لا تكون، فهي حينئذٍ دندنةٌ. كذلك أعمال الرَّقص والرَّسم والنَّحت، فهي إمّا أن تكون فنونًا جميلةً أو لا تكون شيئًا من ذلك أبدًا.
أمّا المسألة مع الأدب فمختلفة تماما، ذلك أنّ الأدب حين لا تحتشد فيه فنِّيَّة الشَّكْل والمَضْمون، فقد ينقلب عملا انتفاعيّا معيشيّا، وحديثا بين النّاس عابرا لا تبقى له ميزة التّسمية الأدبيّة.
ميشال عاصي
الفنّ والأدب - ١٩٣٦