الحديقة

الحديقة

الحديقة

حديقةٌ 

    1 –  لي  صاحِبٌ هُوَ  أعظَمُ  الأَصحابِ  نشاطًا، وأوفَرُهُم جِدّا وَأكثَرُهُم ميلًا إلى الزّراعَةِ. وقَدْ رزَقَهُ  الله  ضيعةً  واسعةً ، فَانْقَطع لها، وتفنَّنَ في إصْلاحِها ، فاسْتحالَت ضيعتُهُ روضَةً  تفيضُ أزْهارًا وَثمارًا ، وتسيل عيونًا وغدرانًا1. 

    2 –  وأعجبُ ما يروقُ النّاظرَ عندَ الصّباحِ في تلكَ الجنَّة الزّاهرةِ، منظرُ المياهِ  المتدفِّقَةِ  الّتي  تدورُ حول الأشجار كأنَّها  عقودٌ وقلائدُ2، وتتلوّى في سَيرها كَما  تتلوَّى  الحيّاتُ المَذعورَةُ الهاربَةُ، ثمَّ  تتلاقى أَطرافُها                                                      وراءَ  الحديقةِ  فَتشكّلُ  بُرَكًا  صغيرةً  مستديرةً، يحُفُّ بها العشبُ الأخضرُ ، كما تحفُّ الأهدابُ بِالعيونِ. فإذا انْعَكسَتْ على تلكَ البرَكِ  زُرقةُ  السَّماءِ خُيِّلَ إليك أنّها المَرايا  الصّافياتُ في أطُرِها. وَيزيدُ في بَهاءِ الحديقةِ  وَفِتْنَتِها مَنظرُ الشّمسِ ساعةَ الأَصيل مُودِّعةً وَقد توهَّج  قرصُها  كاللهيبِ الأَحْمَرِ، ينثرُ  تِبرَهُ3  في  الفضاء، ويُبَعثرُه  على أَعالي الأشجار، فَيَتساقَطُ من بينِ الأَغصانِ كأنَّهُ الدَّنانيرُ، وَيَستحيلُ الزّهرُ في سُكونِ ذلكَ الجوِّ وَهُدوئهِ أَحجارًا جامدةً مِنَ الزُّمرُّدِ والياقوتِ. وإذا أقبلَ اللَّيلُ أقبلَتْ مَعهُ الطّيورُ أَسْرابًا أَسْرابًا تُطرِّزُ في صَفحةِ الجوِّ خُطوطًا مُستقيمة ً ومتعرِّجةً ، ودوائرَ تامّة ً وناقصة ً، وتغرِّدُ أَغاريدَها المُختلفةَ الألحانِ وَالنّغماتِ، كأنّها فرقٌ موسيقيّةٌ بارعةٌ، تتَّحدُ نَغماتُها وتختلفُ رنَّاتُها. ولا تزالُ كذلِكَ حتّى تنزلَ بذلكَ المأوى الظّليلِ ، لتقضيَ فيْهِ سوادَ ليلِها . 

    3 – ما أَسْعَدَ صَباحي بِتلكَ الجَنَّةِ السّاحرَةِ ! وَما أَهنأَهُ بِذلكَ النَّعيمِ!                                      

                                                                                    مصطفى لطفي المنفلوطيّ